الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (141): {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}والخطاب في قوله تعالى: {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} للمؤمنين الصادقين بلا خلاف، والموصول إما بدل من {الذين يَتَّخِذُونَ} [النساء: 139] أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين. وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف، والتربص الانتظار، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر، والفاء في قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله} لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء {قَالُواْ} أي لكم {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبًا من الغنيمة {وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ} أي حظ من الحرب، فإنها سجال {قَالُواْ} أي المنافقون للكفار {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم {وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين} أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم. وقيل: المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم ونمنعكم من الدخول في جملة المؤمنين وهو خلاف الظاهر، وأصل الاستحواذ الاستيلاء، وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه، وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعُدّ فصيحًا، وقال أبو زيد: إنه قياسي، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في موضعه. وقرئ {وَنَمْنَعْكُمْ} بالنصب بإضمار أن، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، سمي ظفر المسلمين فتحًا وما للكافرين نصيبًا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين، وقيل: سمي الأول فتحًا إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفئ ضياء ما نالوا.{فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل: تغليب، وقيل: حذف أي بينكم وبينهم {وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} أي يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاءًا واستدراجًا، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانًا تامًا بالاستئصال، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم، وحكي ذلك عن السدي، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه، ونحن نقول: يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلًا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لابد لحدوث العلقة من موجب وهو ظاهر فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه. وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال، أو السبيل عنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل..تفسير الآية رقم (142): {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)}{إِنَّ المنافقين يخادعون الله} أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه، وعن الحسن واختاره الزجاج أن المراد يخادعون النبي صلى الله عليه وسلم على حد {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار، وقيل: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورًا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور، وروي ذلك عن الحسن، أيضًا والسدي واختاره جماعة من المفسرين وقد مر تحقيق ذلك ولله تعالى الحمد. والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر {ءانٍ} أو مستأنفة كالأولى.{وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى} أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل لأنهم لا يعتقدون ثوابًا في فعلها ولا عقابًا على تركها، وقرئ بفتح الكاف وهما جمعا كسلان. {يُرَاءونَ الناس} ليحسبوهم مؤمنين، والمراآة مفاعلة من الرؤية إما عنى التفعيل لأن فاعل عنى فعل وارد في كلامهم كنعم وناعم وقراءة عبد الله وإسحق يروون تدل على ذلك، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لابد في حقيقتها من اتحاذ الفعل ومتعلقه، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يريدون بقيامهم هذا؟ فقيل: يراءون إلخ، أو حال من ضمير {قَامُواْ} أو من الضمير في {كسالى}.{وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلًا} عطف على {يُرَاءونَ}، وقيل: حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقًا إلا زمانًا قليلًا، أو إلا ذكرًا قليلًا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله، أو لأن ذكرهم باللسان قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب، وقيل: إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما لم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرًا، وروي ذلك عن قتادة، وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما عناه. وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل وقيل: المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح، وإليه ذهب الجبائي، وأيد بما أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلًا».، وقيل: الذكر عنى الصلاة لأن الكلام فيها لا عناه المتبادر منه، وجوز أن يراد بالقلة العدم، واستشكل توجيه الاستثناء حينئذٍ. وأجيب بأن المعنى: لا يذكرون الله تعالى إلا ذكرًا ملحقًا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال، ولا يخفى ما فيه فإن القلة عنى العدم مجاز، وجعل العدم عنى ما لا نفع فيه مجاز آخر، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه، وقال بعض المحققين: في توجيه الكلام على ذلك التقدير أن المعنى حينئذٍ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرًا فذلك ذكرهم على طريقة قوله:وفيه وإن كان أهون من الأول ما فيه، واستدل بالآية على استحباب دخول الصلاة بنشاط، وعلى كراهة قول الإنسان كسلت، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يكره أن يقول الرجل إني كسلان ويتأول هذه الآية. .تفسير الآية رقم (143): {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)}{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} حال من فاعل {يُرَاءونَ} [النساء: 142] أو من فاعل {يَذَّكَّرُونَ} [النساء: 142] وجوز أن يكون حالًا من فاعل {قَامُواْ} [النساء: 142] أو منصوب على الذم بفعل مقدر، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين، ولذا أضيف {بَيْنَ} إليه، وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون ما بعده تفسيرًا له على حد قوله:والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان، وأصل الذبذبة كما قال الراغب: صوت الحركة للشيء المعلق، ثم استعير لكل اضطراب وحركة، أو تردد بين شيئين، والذال الثانية أصلية عند البصريين، ومبدلة من باء عند الكوفيين، وهو خلاف معروف بينهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {مُّذَبْذَبِينَ} بكسر الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أي مذبذبين قلوبهم أو دينهم أو رأيهم ويحتمل أن يجعل لازمًا على أن فعلل عنى تفعلل كما جاء صلصل عنى تصلصل أي متذبذبين، ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود {متذبذبين}.وقرئ بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من الدبة بضم الدال وتشديد الباء عنى الطريقة والمذهب كما في النهاية، ويقال: هو على دبتي أي طريقتي وسمتي، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقًا وأخرى أخرى.{لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين، ومحله النصب على أنه حال من ضمير {مُّذَبْذَبِينَ} أو على أنه بدل منه، ويحتمل أن يكون بيانًا وتفسيرًا له {وَمَن يُضْلِلِ الله} لعدم استعداده للهداية والتوفيق {فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} موصلًا إلى الحق والصواب فضلًا عن أن تهديه إليه، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع. .تفسير الآية رقم (144): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}{سَبِيلًا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} نهى المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط كما قيل أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم، وقيل: المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون الملخصين؛ وقيل: المراد بالموصول المخلصون، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل: قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء، وإلى ذلك ذهب القفال، وفي كلا القولين بعد.{أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سلطانا مُّبِينًا} أي حجة ظاهرة في العذاب، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدًا قتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه، ويشعر بذلك كثير من الآيات، وقيل: أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق. ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعًا، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، و{عَلَيْكُمْ} يجوز تعلقه بالجعل وحذوف وقع حالًا من {سلطانا}، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون إلخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلًا عن صدور نفسه..تفسير الآية رقم (145): {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)}{إِنَّ المنافقين فِي الدرك الاسفل مِنَ النار} أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل: جهنم، والثانية: لظى، والثالثة: الحطمة، والرابعة: السعير، والخامسة: سقر، والسادسة: الجحيم، والسابعة: الهاوية، وقد تسمى النار جميعًا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها؛ وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض، والدرك كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وفي كون المنافق في الدرك الأسفل إشارة إلى شدّة عذابه.وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل وإنما كان أشد عذابًا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاءًا بالإسلام وخداعًا لأهله، وأما ما روى في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد غدر، وإذا خاصم فجر» فقد قال المحدثون فيه: إنه مخصوص بزمانه صلى الله عليه وسلم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم، ولم يعينهم حذرًا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين، وقيل: ليس خصوص ولكنه مؤل بمن استحل ذلك، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص، وأطلق صلى الله عليه وسلم ذلك عليه تغليظًا وتهديدًا له، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه، أو هو منافق في أمور الدين عرفًا والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانًا وكفرًا، وكأنه مأخوذ من النافقاء، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلى الله عليه وسلم باقتضاء المقام، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع».وقرأ الكوفيون {الدرك} بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ، وزند وأزناد وكونه استغنى بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر، فلا يندفع به الترجيح والكلام مخرّج مخرج الحقيقة، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إن السلطان بلغ فلانًا الحضيض وفلانًا العرش، يريدون بذل انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة، ولايخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار، و{مِنَ النار} في محل النصب على الحال؛ وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنه {الدرك} والعامل الاستقرار، والثاني: أنه الضمير المستتر في {الاسفل} لأنه صفة، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار.{وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في الدرك الأسفل وكون المراد ولن تجد لهم نصيرًا في الدنيا لتكون الآية وصفًا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى، والخطاب لكل من يصلح له.
|